الأحد، 25 يناير 2009

روسيا.. هل يبدد صمتها بغزة أوهام عودة إمبراطوريتها؟



بعد
أحداث أوسيتيا الجنوبية في أغسطس/آب 2008 استبشر الكثير من العرب بعودة روسيا قوية إلى الساحة الدولية، بعد سبات طال، كلاعب قطبيّ خاصة عندما أصبحت سفنها الحربية تمخر عباب المحيطات وترسو على الضفاف الأميركية. لم تُنكر موسكو على لسان قادتها أنها بعد معاقبة جورجيا أصبحت عاصمة لدولة مختلفة عمّا سبق، وأنها لن تتردد في الإقدام على أي شيء من أجل الحفاظ على مصالحها الإقليمية والدولية.

لكن الهجوم الإسرائيلي على
قطاع غزة بدّد الكثير من أوهام العرب الذين أصيبوا بالخيبة لصمت روسيا المطبق إزاء ما حدث على مدى ثلاثة أسابيع تعرض فيها أهل غزة إلى التقتيل والتدمير.

واقتصر اهتمام الرئيس الروسي
دميتري ميدفيديف على مكالمات هاتفية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في حين هاتف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) خالد مشعل، وقام نائب وزير الخارجية ألكسندر سلطانوف بزيارة عواصم المنطقة لم تسفر عن أي نتائج ولا حتى عن تصريحات.

وحتى العرب المقيمين في روسيا فإنهم لم يتمكنوا من الحصول على ترخيص لتسيير مظاهرات احتجاج إلا بعد تدخل الحزب الشيوعي الروسي وحصوله على ذلك للعشرات منهم.
والحقيقة أن موسكو لم تَعِد العرب بشيء ممّا انتظروه هم منها وما كانت أمانيّهم إلا أضغاث أحلام لم يتردد السياسي الروسي المخضرم يفغيني بريماكوف في حديث مع الجزيرة نت في تسميتها بالأوهام التي لم يكن لها أي أساس حتى في الحقبة السوفياتية.


مصالح روسيا فقط
وأضاف أن روسيا غير مستعدة للخوض في أي معارك من أجل العرب، وأنها لن تنطلق من غير مصالحها ولا تسعى إلى غير الإسهام في التوصل إلى سلام في المنطقة، مشددا على أن روسيا "لم تكن أبدا مستعدة للدخول في حرب بهدف حماية العرب.. روسيا تفضل حلّ الأزمات بطريقة سلمية، وإن كان أحد في العالم العربي يعتقد أنه قادر على الجلوس في المنزل واحتساء الشاي وأن آخرَ في هذه الأثناء سيقف في وجه الأعداء لحمايته فهو مخطئ تماما".

حاولت موسكو أن تبيّن للعالم أنها تحافظ على استقلاليتها في إقامة علاقة بحركة حماس، واستدعت خالد مشعل إلى موسكو حيث التقى بوزير الخارجية الروسي وكانت لأسامة حمدان أيضا زيارة غير رسمية لموسكو في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. إلا أن هذه العلاقة ظلّت تراوح بين الاعتراف بالوجود وعدم الاعتراف بالتمثيل المقتصر على السلطة الفلسطينية، وإن كان موقف موسكو يتميز مبدئيا عن الموقف الأميركي خصوصا والغربي عموما من حيث إنها تعتبر حماس منظمة سياسية وليست إرهابية.

في المقابل تتمتع إسرائيل في الدبلوماسية الروسية الحديثة بموقع خاص بلغت حد إلغاء التأشيرات بين الدولتين وحتى تورطُ إسرائيل الفاضح في حرب القوقاز إلى جانب الرئيس الجورجي ساكاشفيلي والذي وثقته وزارة الدفاع الروسية، فإنه لم يؤثر في مجرى هذه العلاقات، في حين رأينا موسكو تُغلظ في معاقبة أوكرانيا على "الذنب" نفسه في القوقاز.

يرى مراقبون أن العقدة الرئيسية التي ربطت بها موسكو دورها في الشرق الأوسط هي دخولها طرفا في الرباعية زمن ضعفها دون أن يكون لها دور يذكر بالقياس إلى الدور الأميركي، وهي لذلك تظل تلهث لتعزيز هذا الدور وتسعى من أجل عقد مؤتمر خاص بالشرق الأوسط ظهر الأمل بتنظيمه إثر مؤتمر أنابوليس في الولايات المتحدة وهناك من سمّاه أنابوليس 2 في موسكو.

وقد لاقت الدعوة الروسية قبولا عربيا في السنة الماضية ولكن التعنّت الإسرائيلي بحصر الرعاية في واشنطن أفسد على موسكو تظاهرتها التي لم تفقد لحد الآن الأمل في عقدها وإن تم ترحيلها إلى العام الحالي وتم النص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 1860 الخاص بالأوضاع الأخيرة في غزة. وحتى هذا المؤتمر فإن موسكو قد أعلنت على لسان وزير خارجيتها أن الذي سيمثل فلسطين فيه هو السلطة الشرعية الفلسطينية المتمثلة بالنسبة إلى موسكو في محمود عباس.


تعتيم إعلامي روسيهذا الكساد السياسي الروسي اتجاه الشرق الأوسط يترافق مع نشاط إعلامي منقطع النظير لإغلاق أي منافذ من شأنها أن تطلع المواطن الروسي على حقيقة الأمور في فلسطين، وذلك عبر السيطرة المحكمة لأصدقاء إسرائيل على معظم وسائل الإعلام الروسية المرئية والمسموعة والمكتوبة الناطقة باللغة الروسية، رغم وجود بعض الشخصيات الإعلامية الروسية التي تحاول فك هذا الحصار الإعلامي، ومن هؤلاء رئيس تحرير صحيفة "الغد" ألكسندر بروخانوف الذي أصدر كتابا تحت عنوان "المجد لأبطال حماس".

ومنهم أيضا الإعلامي الروسي المعروف مكسيم شيفتشينكو الذي يرى أن على موسكو أن تعلن عن مواقف واضحة إزاء ما يحصل في الشرق الأوسط، وهو ما أكده في تصريحه للجزيرة نت من أنه إذا "لم تعبّر موسكو عن موقفها الواضح تجاه ما يجري في الشرق الأوسط فإن دور روسيا سيتم تهميشه في العالم بأسره ولن تستطيع أن تلعب الدور الذي ينبغي أن تلعبه فيه، وهذا خطأ كبير".

وأكد وزير الخارجية لافروف أثناء لقائه بالسفراء العرب لدى موسكو الثلاثاء على "ثوابت" موسكو الشرق أوسطية والمتمثلة في الدعوة إلى السلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وبين الجانبين الفلسطينيين في رام الله وقطاع غزة. وجدّد الدعوة إلى مؤتمر موسكو للسلام الذي يرى لافروف أن العدوان الأخير على غزة لم يفرغه من محتواه بل بالعكس يجعله أكثر إلحاحا. وأبدى لافروف استعداد بلاده لتقديم أي مساعدات إنسانية لازمة لسكان غزة، وقال إن موسكو تتشاور مع السلطات في غزة بهذا الشأن، ولكن لم يصدر أي تنديد بالعدوان الإسرائيلي عن الوزير الروسي.

كما جدد لافروف تبنّيه للمبادرة المصرية وأعلن أن موسكو ستحضر مؤتمر المانحين الذي ستنظمه مصر في منتصف فبراير/شباط المقبل وستساهم بكل ما أوتيت من إمكانات في إعادة إعمار غزة.

بين حربين
لم تستطع موسكو أن ترسم خطا بين الحرب على أوسيتيا الجنوبية والعدوان على غزة. لقد حوّلتها ليلة من القصف الجورجي على عاصمة
أوسيتيا الجنوبية إلى دولة عظمى حطمت الجيش الجورجي في أيام عدة.

ولكن القصف المستمر لثلاثة أسابيع على غزة لم يثر موسكو حتى لإصدار بيان تشجب فيه العدوان الإسرائيلي بشكل واضح.

هل خسرت موسكو بهذا الصمت فرصة لإسماع صوتها المدوي دوليا؟ ربما ولكن قادة الكريملن ينظرون إلى العالم عبر منظارهم الخاص وهم أدرى بمصالحهم، وما دامت هناك أطراف عربية أقرب إلى غزة نَسَبا وأرضا آثرت عدم نصرة أهل غزة فمن سيلوم روسيا على عدم اختيار الطريق الصعب؟
يبقى أن هناك دولا أخرى تعلن منذ فترة عن اشتداد عود دبلوماسيتها وبشكل مبدئي كما هو الحال بالنسبة إلى تركيا التي تحرّكت بنشاط أثناء أزمة القوقاز وتحرّكت بهمة وكرامة أثناء العدوان على غزة. وإذا قارنت روسيا نفسها بمثل هذه الدول وليس بالدول العربية "المعتدلة" فإنها ربما ستكتشف أنها فوتت فرصة فعلية للعودة قطبا دوليا يحسب له كل حساب في العالم بدل أن تحصر نفسها في جلد القطب الإقليمي الذي ينازع دول الفضاء السوفياتي السابق على الولاء، وموسكو خير من يعرف أن وراء الأكمة الإقليمية ما وراءها من المشاريع الدولية.
الأربعاء 25/1/1430 هـ - الموافق21/1/2009
المصدر:
الجزيرة

ليست هناك تعليقات: